يوسف حمداوي حاصل على
الدكتوراه بجامعة محمد الخامس بالرباط باحث في الفكر الإسلامي
النصر والمستقبل لحقائق
الإسلام في ضوء الانفتاح العولمي
تأملات في فكر النورسي
تتوزع
آيات الظهور والتمكين في رسائل النور بنسب متفاوتة ويمكن التمثيل لبعضها بالآيات الآتية[1]:
* قال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى
وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدا﴾ (الآية 28 من سورة الفتح).
* قال الله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُ اْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى
اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ
كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ (الآية 32 من سورة التوبة).
* قال
الله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ
وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا
يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ ﴾ (الآية 55
من سورة النور).
أما الأحاديث فكثيرة، نجمل معناها في بعث الله
لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها، ودوام وجود طائفة ظاهرة
على الحق، والإخبار بقدوم الخلافة الراشدة على منهاج النبوة بعد نهاية الملك العاض
والملك الجبري، والإعلام بانتشار الإسلام انتشار الليل والنهار، كما هو في مسند
الإمام أحمد عن تميم الداري قال: سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "ليبلغن
هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا
الدين بعز عزيز وذل ذليل عزا يعز الله به الإسلام وذلا يذل الله به الكفر".
وإلى غيرها من الأحاديث والآيات التي لا يسمح المقام بذكرها، وإنما القصد هنا
التمثيل للبرهان النقلي على حقيقة النصر لأمة الإسلام وأحقيتها على قيادة
الإنسانية في المستقبل.
لقد حاول النورسي أن يستثمر هذه البراهين لتوجيه
إرادة الأمة نحو الأخذ بأسباب النصر والتمكين والعمل على تمثلها في تصورهم الإعتقادي،
وسلوكهم الأخلاقي، ونظامهم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وحراكهم العلمي
والعالمي. كما أتبث من خلال تدبره في هذه النصوص سمو التشريع النبوي وقدرته على
ترشيد حركة الإنسان في الوجود، وتحقيق حاجاته العقلية والقلبية، وحمايته من أفكار
الضلالة والإلحاد وإمداده بالمنهج الفريد لبناء التصور الكلي عن الإنسان والكون
والحياة.
هذا المنهج الذي يقوم على قاعدة الهدى النبوي
ودين الحق، وهما الدعامتان لأمة الشهود والظهور؛ فبالهدى النبوي نحقق عالما آمنا
تسوده الوحدانية والعبودية الحقة، والعمل الصالح، والوعي بالذات وبالآخر،
والاستقامة في التفكير، وتحقيق التوازن بين عالم الروح وعالم المادة. وببعدنا عن
هذا الهدى نسقط في تأليه الماديات ونغرق في بحر الظلمات ونضيع في مستنقع أضرار
الشرك والكفر ونتائجه السلبية على الكون والحياة. وبدين الحق، نرسم النظام الكفيل
بتحقيق الأمن الاجتماعي والاقتصادي
والسياسي، وبنوره تتحقق قواعد الاستخلاف والعمارة وإسعاد البشرية ،ومعالجة كافة
مشاكلها وحمايتها من الصراع والعنصرية المفضيين إلى التخريب والإفساد في الأرض،
وإحداث الانفصام بين عالم الروح وعالم المادة، يقول النورسي: "قد أرسله الله
بشرا رسولا ليكون بأعماله وحركاته كلها إماما ومرشدا للبشر كافة، وفي أحوالهم كافة
ليحقق لهم بها سعادة الدنيا الآخرة... ودعا الناس إلى الدين دعوة ملؤها الثقة وبلغ
رسالته بشجاعة وإقدام –بحيث إن معارضة قومه وعمه والدول الكبرى في العالم، واتباع
الأديان السابقة وعدائهم لم ينل منه الخوف ولا الإحجام قطعا، بل تحدى العالمين
وظهر على الجميع[2]، هذا الظهور هو الذي تقصده
الأية الكريمة: "لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدا"، وقوله تعالى:
"لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ
الْمُشْرِكُونَ". كلمة الإظهار هذه في القرآن هي من
مفردات الوعد بالتمكين والنصر للإسلام في المستقبل رغم تعقد الأوضاع، واتساع
الأزمات واختلاط الحابل بالنابل. فالنصر آت لا محالة، والمستقبل للإسلام قدر محتوم
لابد أن تستسلم البشرية لأمره حسب تعبير النورسي.
إذن فالمحصلة في ضوء هذه الحقائق، ترك اليأس
والتحلي بزينة الأمل، واتخاذها راية كبيرة يرفعها المسلمون أثناء توجههم نحو
التقدم في أفاقهم المادية والمعنوية.
إن هذا الأمل يشكل في فكر النورسي مدخلا أساسيا
للعبور إلى مجموعة من المعطيات الواقعية والقوانين السننية، والحقائق الفطرية التي
تكون بمجموعها حقيقة قطعية، مفادها أن المستقبل للإسلام. نقتصر على نص واحد في
صيقل الإسلام[3] من النصوص التي تناولت هذه
المعطيات بالتحليل، وهو قول النورسي: "إن مستقبل الإسلام وآسيا، باهر وفي
غاية السطوع واللمعان، كما يتراءى من بعيد. لأن هناك أربع أو خمس من القوى، تتفق
–بما لا يمكن مقاومتها- على سيادة الإسلام المهيمن أولا وآخرا على آسيا:
القوة الأولى: قوة الإسلام الحقيقية
المدعمة بالمعرفة والمدنية.
القوة الثانية: الحاجة المجهزة
بتوافر الوسائل وتكمل المبادئ والأسباب.
القوة الثالثة: المنافسة والغبطة
والغيظ المظمر، هي أمور تهيئ الصحوة العامة الناشئة من رؤية آسيا في منتهى السفالة وغيرها في منتهى
الرفاه.
القوة الرابعة: استعداد الفطرة
المجهز: بتوحيد الكلمة الذي هو دستور الموحدين.. وبدماثة الخلق والاعتدال، الذي هو
خاصة الوضع الحاضر.. وبتنوير الأذهان، الذي هو ضياء الزمان.. وبتلاحق الأفكار،
الذي هو قانون المدنية.. وبسلامة الفطرة، التي هي لازمة البدواة.. وبالخفة
والإقدام، وهما ثمرة الضرورة.
القوة الخامسة: الرغبة في التحضر
والتمدن والنزوع إلى التجديد والتقدم المادي –الذي يتوقف عليه إعلاء كلمة الله في
هذا الوقت- التي يأمر بها الإسلام، ويدفع إليها الزمان، ويلجئ إليها الفقر الشديد،
والأمل الباعث للحياة بموت اليأس القاتل لكل رغبة.
والذي يدعم هذه القوى ويمدها في رأي النورسي هو
تغلب مساوئ المدنية على محاسنها حيث أنتجت الفوضى وأرهقت الحضارات وأدت إلى هذا
التباين الاجتماعي الرهيب في الحياة المعاشية الناشئ من فقدان التراحم الناجم من
حب الشهوات ومجافاة الدين.
إن الخروج
من هذه الأزمات الكبرى التي خلفتها حضارة الغرب حسب تعبير النورسي، لا تتم
دون التحصن بحقائق الشريعة، واتخاذها سدا كسد ذي القرنين، يحمي الإنسانية من نتائج
الضلال والفوضى وإلإفساد الذي قلب العالم رأسا على عقب.
هذه الحقائق الظاهرة في عالم الواقع ، حسب رؤية
النورسي تشكل القواعد والأسس الكبرى لبناء مرتكزات الشهود والظهور على الأمم. ولتأكيد
هذه الحقيقة، يحسن أن ندعمها بشهادة خبير الحضارة الغربية محمد إقبال الذي عاش
فيها ما يناهز عشرين سنة، دارسا لفلسفتها ونظمها، وملاحظا لتقلباتها وحركاتها. يقول
رحمه الله: "لقد سقطت أروبا جريحة بسيف نفسها، وهي التي أوجدت الإلحاد واللادينية
في الأرض وإنها اليوم ذئب مفترس في جلد شاة، يتربص دائما ليصطاد الفريسة التي تقترب
منه. إنها سبب مشكلات الإنسان في هذا الزمان. فالإنسانية بسببها قلقة غارقة في
الهموم، والإنسان في نظرها ليس بشئ سوى الماء والطين، وليس لركب الحياة لديها هدف
ولا غاية[4].
إن هذا العالم الذي حوله مقامرو الغرب إلى حانة للفساد سوف ينتهي قريبا وإن
الإنسانية سوف تتمخض عن عالم جديد، وإن هذا العالم الجديد كما يعتقد إقبال، لا
يحسن تصميمه إلا من بنى للإنسانية البيت الحرام بالأمس في مكة مركز الأرض وورث إبراهيم
محمد صلى الله عليه وسلم في قيادة العالم وإرشاده"[5].
هذه نبذ من الأسباب القوية للرقي المادي
والمعنوي، وطريق سوي ممهد للوصول إلى السعادة في المستقبل في رؤية النورسي، فلا
مكان لليأس والقنوط في نفوس المسلمين. بل عليهم أن يأخذوا بالأسباب التي تفتح
الطريق لتحقيق نتائج هذه الوسائل والآليات البانية لصرح الشهود الحضاري.
ومن أعظم الوسائل الداعمة، والميسرة لتوفير
الظروف المناسبة، للدفع بهذه الحقائق
والقوى الخمس نحو تحقيق ثمراتها في رأي النورسي هي: أساس الإيمان، ومبدأ
الحرية الشرعية، والثقة بالقدرة على صناعة المستقبل، والتقدم العلمي والصناعي،
والإيمان بتفوق الحقائق الإسلامية على سائر التشريعات الوضعية، واستعدادها
وقابليتها للترقي، والتحقق بمبدأ العدل، واجتناب الأمراض الستة المعيقة لعملية
التحضر والتقدم، وهي اليأس وموت الصدق في الحياة الاجتماعية والسياسية، وحب
العداوة والجهل بالروابط النورانية التي تربط المؤمنين بعضهم ببعض، وسريان الاستبداد
وحصر الهمة في المنفعة الشخصية.
وبناء على هذه الأسس المحققة لهيمنة حقائق
الإسلام على زمن المستقبل، تقوم الحجة على أمة الإسلام، ويستوجب على أفرادها
النفير الحضاري، والعلمي خاصة في زمن أصبحت فيها الموانع التي حالت دون استيلاء
حقائق الإسلام على الزمان الماضي تعرف الزوال والاندحار بفضل التقدم العلمي ومحاسن
المدنية، وبفضل انتشار حرية الفكر وميل النوع البشري إلى البحث عن الحقائق، وبزوال
الاستبداد والوقوف على حقيقة نتائج الأخلاق الذميمة في عالم الإنسان، وبإزالة توهم
التناقض بين مسائل العلم والمعنى الظاهري لحقائق الإسلام.
إن كل هذه الشواهد التاريخية، والأحداث الاجتماعية،
والتحولات العالمية في ميدان الأخلاق والقيم والنظم، ساهمت في الانسداد الحضاري
للبشرية، وأغرقتها في مستنقع المادية المتوحشة، وكذا المنجزات العلمية، والتجارب
الواقعية الموافقة لحقائق الشريعة، تؤكد أحقية الإسلام في قيادته للبشرية في
المستقبل.
إذن من خلال هذه المشاركة المتواضعة، تبين أن
الوحي بمفرداته العقائدية، ونظمه التشريعية وآفاقه المادية والمعنوية، تنظاف إليه
الاكتشافات، والمنجزات العلمية المتوافقة معه، لتؤكد حقيقة قاطعة مفادها تفرد هذا
الدين، والمستقبل له، كما عبر عن ذلك سيد قطب رحمه الله في كتابه الموسوم بعنوان
المستقبل لهذا الدين الذي افتتحه بكلامه الجميل: "الإسلام منهج حياة. حياة
بشرية واقعية بكل مقوماتها. منهج يشمل التصور الاعتقادي الذي يفسر طبيعة (الوجود)،
ويحدد مكان (الإنسان) في هذا الوجود، كما يحدد غاية وجوده الإنساني. ويشمل النظام
والتنظيمات الواقعية التي تنبثق من ذلك التصور الاعتقادي وتستند إليه، وتجعل له
صورة واقعية متمثلة في حياة البشر. كالنظام الأخلاقي والينبوع الذي ينبثق منه،
والأسس التي يقوم عليها، والسلطة التي يستمد منها. والنظام السياسي وشكله وخصائصه.
والنظام الاجتماعي وأسسه ومقوماته. والنظام الاقتصادي وفلسفته وتشكيلاته. والنظام
الدولي وعلاقاته وارتباطاته.
ونحن نعتقد أن المستقبل لهذا الدين، بهذا
الاعتبار. باعتباره منهج حياة، يشتمل على تلك المقومات كلها مترابطة، غير منفصل
بعضها عن بعض..."[6].
[1]- أنظر الشععات ج4/ص654-657
والمكتوبات ج2/ص113 واللمعات ج3/ص40-41 والكلمات ج1/ص469
[5]-
أنظر
روائع إقبال أبو حسن الندوي ص131 بتصرف، وغيرها من شهادات علماء الغرب بأنفسهم لا
يسمح المقام بسردها ويكفي الإحالة على كتاب "قالوا عن الإسلام" للدكتور
المفكر الإسلامي عماد الدين خليل الملحق ضمن كتاب إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز
لبديع الزمان النورسي.
No hay comentarios:
Publicar un comentario